الصفحة الرئيسية  أخبار وطنية

أخبار وطنية 20 مارس 1956 : بين الحقائق التاريخية و التوظيف السياسي بقلم الأستاذ عميره عليّه الصغيّر

نشر في  20 مارس 2018  (16:52)

بقلم أ.عميره عليّه الصغيّر
المعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر 
 
يتناول هذا المقال تاريخ 20 مارس 1956 تحت عنوان" 20 مارس 1956 : بين الحقائق التاريخية و التوظيف السياسي" لأنّ بروتوكول الاستقلال الذي أُمضي في ذاك اليوم بباريس من الطرفين الفرنسي والتونسي لا يزال موضوع جدال ومنذ امضائه بين من يعتبره تتويجا للكفاح الوطني و تكريسا لاستقلال تونس و بين من يراه خيانة لتضحيات الوطنيين و دماء الشهداء و هنالك حتى من يشكّك في وجود وثيقة الاستقلال أصلا و يطالب بإعادة كتابة تاريخ الحركة الوطنية التونسية و قلب الأدوار فيها بين "الوطنيين الحقيقيّين" و بين "الخونة و عملاء فرنسا"!!
ولعلّ اعادة تناول هذا الحدث المؤسس لدولة الاستقلال بشروط البحث التاريخي الموضوعي تصحّح صورة "20 مارس" تلك في اذهان المهتمين بتاريخ تونس و خاصة الفاعلين السياسيين و الإعلاميين و صنّاع الرأي العام و يرفع الجدل القائم حوله خاصة و انّ جروحا قديمة كانت حافّة بالحدث لم تندمل بعد و حتى بعد مرور ستين سنة عليه.
 
ونعالج الموضوع في عنصرين:
1- 20 مارس 1956 تتمة لاتفاقيات 3 جوان 1955.
2- هل بروتوكول 20 مارس يكرّس استقلال تونس فعلا ؟
 
1- 20 مارس 1956 تتمة لاتفاقيات 3 جوان 1955
 
تُوّجت المفاوضات التي بدأت بباريس يوم 27 فيفري 1956 بين الطرفين، كما هو معلوم، يوم 20 مارس 1956 بإمضاء بروتوكول استقلال تونس بمقر وزارة الخارجية الفرنسية بالكاي دورسي بين وزير الخارجية الفرنسية كرستيان بينو و رئيس الحكومة التونسية الطاهر بن عمار واعترفت فيه فرنسا "علانية "( في نص البرتوكول العربي) و رسميّا ( بالفرنسية solennellement ) باستقلال تونس و "ينجم عن ذلك (حسب هذه الوثيقة):
أ- إنّ المعاهدات المبرمة بين فرنسا و تونس يوم 12 ماي 1881 لا يمكن أن تبقى تتحكم في العلاقات الفرنسية التونسية.
ب- إنّ أحكام اتفاقيات 3 جوان 1955 التي قد تكون متعارضة مع وضع تونس الجديد و هي دولة مستقلة ذات سيادة سيقع تعديلها أو الغاؤها. و ينجم عن ذلك أيضا :
ج- مباشرة تونس لمسؤولياتها في مادة الشؤون الخارجية والأمن و الدفاع و كذلك تكوين جيش وطني تونسي.
وفي نطاق احترام سيادتيهما تتفق فرنسا و تونس على تحديد أو إكمال صيغ تكافل يكون محققا في حرية بين البلدين بتنظيم تعاونهما في الميادين التي تكون مصالحهما فيها مشتركة خاصة في مادة الدفاع و العلاقات الخارجية" .
لأن أقرّ اذن بروتوكول 20 مارس استقلال تونس و ألغى ضمنيا اتفاقية الحماية لـ 12 ماي 1881 فانّه أتى مواصلة لإتفاقيات الاستقلال الداخلي و لم يلغيها، فقط أقرّ للدولة التونسية بالسيادة الخارجية و الحق في انشاء جيش وطني لكن في نفس الوقت ربط البروتوكول هذه التنازلات من فرنسا أو هذه الحقوق بشرط "التكافل بين الطرفين"(l’interdépendance) و تلك معركة أخرى ستخوضها دولة الاستقلال لاستكمال السيادة الوطنية و تجسيدها على المستوى الأمني و العسكري و الاقتصادي دامت 10 سنوات تقريبا .
يبقى أنّ بروتوكول 20 مارس، لإحالته بالذات لاتفاقيات 3 جوان 1955 و التي لم يلغها تماما، محلّ شك وريبة عند اطراف تونسيّة ،خاصة وأنّ تبعات الخلاف في الصف الوطني حول تلك الاتفاقيات لا تزال آنذاك (عند امضاء بروتوكول الاستقلال) تعتمل وحيّة في ذهن الفاعلين لأنه لم تمر سنة واحدة عليها وأن الطرف اليوسفي المناوئ لاتفاقيات 3 جوان لا يزال فاعلا و متحرّكا سياسيا وعسكريا، داخل تونس و خارجها، ولا يزال الخطاب "المخوّن" لمُمضيِي الاتفاقيات و لمتبنّيها متداولا.
 
2- هل بروتوكول 20 مارس يكرّس" استقلال" تونس فعلا ؟
 
إنّ رضوخ الجانب الفرنسي و قبول منح التونسيين "استقلالا" تامّا بعد أقل من عشرة أشهر من رفضه اياهم جاءا في اطار الإستراتيجيا الاستعمارية الفرنسية للتخلي عن الاستعمار المباشر و كذلك لضغط المقاومة المسلحة اليوسفيّة وللتفرّغ للقضاء على ثورة التحرير الجزائرية المندلعة في 1 نوفمبر 1954 وحشد كل قواها العسكرية و المالية للحفاظ على الجزائر لم يرض صف المعارضين للجناح البورقيبي الحاكم و تمادوا في أغلبهم على اعتبار امضاء بروتوكول 20 مارس "خديعة فرنسيّة" هدفها الاستفراد بالمقاومة الجزائرية و قطع السند عنها من "اخوانهم" التونسيين و مؤكدين حتى و إن أقرّت فرنسا لتونس بسيادتها الخارجية و منحتها حق تكوين جيش و ضبط أمنها الداخلي بنفسها ، فانّ تونس لم تستقل فعليا بما أنّ الدولة الحامية سابقا و الشريك الجديد المستقبلي تضمن ، بمنطوق الاتفاقيات ذاتها، الحفاظ على مصالح مواطنيها في تونس من موظفين و معمرين و كذلك شركات استثمار في الثروات الطبيعية وأبقت على تبعية تونس المالية و التجارية و الأخطر فانّ فرنسا ابقت على قواتها العسكرية فاعلة من جنوب البلاد الى شمالها ، اضافة على الحفاظ على وجودها الثقافي عبر المؤسسات التعليمية و اعتبار اللغة الفرنسية لغة ثانية لتونس بما أن الاتفاقيات ذاتها تفرضها "لغة غير أجنبية".
هذه حجج من كان لا يعتبر 20 مارس هو تاريخ استقلال تونس و هي كذلك المسوّغات التي ستحمل الجناح الرافع لراية المقاومة و التضامن المغاربي لرفض وضع السلاح حتى بعد إعلان الاستقلال. لكن التّمشي المقارن لإتفاقيات الاستقلال لمستعمرات أو محميات أخرى، إن كانت حازت على استقلالها بالنضال السياسي اساسا، كحالة المغرب الأقصى، أو عبر المقاومة المسلحة، شأن الجزائر، يثبت أنّ مضمون اتفاقية استقلال تونس لا تختلف عن غيرها كثيرا.
فمثلا نقرأ في الإعلان المشترك الممضى بتاريخ 2 مارس 1956 بباريس بين الحكومة الفرنسية و ممثل حكومة السلطان محمد الخامس و هو بمثابة"اتفاقية استقلال المغرب"بما انه يلغي اتفاقية الحماية (اتفاقية فاس ل 30 مارس 1912) و يقر بمبدأ "التكافل"(l’interdépendance) في مجال الدفاع والعلاقات الخارجية و الإقتصاد والثقافة ويضمن مصالح الفرنسيين المقيمين بالمغرب الإقتصادية و كذالك حرياتهم و يوضح "البروتوكول الملحق" بهذا الإعلان على أن المغرب يبقى ضمن منطقة الفرنك الفرنسيّ zone franc و يحافظ على الضمانات القائمة للموظفين والأعوان الفرنسيين المقيمين بها .
كما حافظت فرنسا بحضورها العسكري في محميتها المستقلة جديدا. هذه الاتفاقيات ستُرفض أيضا، كما كان الحال في تونس، من أنصار الأمير محمد ابن عبد الكريم الخطابي و اعضاء جيش التحرير و المقاومة المسلحة في الداخل المغربي.
أمّا في الجزائر التي كان استقلالها ثمرة حرب تحرير سقط فيها مئات الآلاف من الشهداء و الذي أتى بعد مفاوضات شاقة ليكلّل بإمضاء 'اتفاقيات افيون"(Les accords d’Evian ) بين ممثلي جهة التحرير الوطني والحكومة الفرنسية في 18 مارس 1962 فانّ الاتفاقيات هنا ايضا تقرّ للفرنسيين المقيمين بالجزائر بحقوقهم المكتسبة في الملكية و بحق المشاركة في الحياة العامة و المساهمة في المجالس المحلية المنتخبة و المحافظة على نظام الأحوال الشخصية الخاص بهم كما تنصّ اتفاقيات افيون على بقاء الجزائر في منطقة الفرنك وعلى ضرورة الاستغلال المشترك للثروات الطبيعية في المنطقة الصحراوية من الجزائر كما تقبل الجزائر بمنح فرنسا على وجه الكراء لمدة 15 سنة متجددة للقاعدة البحرية "المرسى الكبير" و تسمح للجيش الفرنسي باستعمال بعض المطارات و المنشآت التي يراها ضرورية .
الاستنتاج هوانّ افتراض تحقيق استقلال مثالي، كما يتصوره معارضو بروتوكول 20 مارس ، بمعنى القطيعة التامة مع المستعمر القديم و انتفاء حضوره الإقتصادي أو العسكري أو السياسي أو الثقافي في الدولة المستقلة و اكتساب هذه الأخيرة لكل مقومات السيادة النّاجزة "دفعة واحدة" هو افتراض غير تاريخي و مثالي.
خاتمة إنّ القراءات الثأريّة للتاريخ و المقاربات السياسيّة للماضي البعيد أو القريب تُعمي عن كنه الواقع في حقيقته وهي لا تضرّ فقط بالإنتاج المعرفي العلمي بل تضرّ بالذاكرة الجمعيّة للشعوب و تسقطها في وعي مغلوط لماضيها.
فقط القراءات الموضوعيّة للتاريخ بضوابطها المنهجيّة والأخلاقيّة قادرة على تعريف المجتمعات بماضيها في أوجهه كلّها المنيرة و المظلمة، والمُعزّة و المُخزية و تجعلها تتصالح مع ماضيها و تمنحها القدرة على تعدّيه الى ما هو أفضل.